الأحد، ٣٠ كانون الثاني ٢٠١١

تونس.. تجربة ثورة

kolonagazza
أسامة حسين الفرحان
لكل ثورة في عالمنا دروس وتجارب تصب في ذاكرة التاريخ ، و تستفيد منها مختلف شعوب الأرض المقهورة ، ويبدو أن تجربة تونس قد أفادت الكثير من الشعوب، وبثت فيهم الروح الثورية ، وأعطت كثيراً من الآمال والتطلعات لدى شعوب المنطقة، وحري بنا أن نكتب الأسفار والدروس والعبر المستخلصة منها ومن تجربة الشعب التونسي طيلة ال23 سنة.
دروس ثورة تونس عديدة ، وكل كاتب أو محلل او ثائر يستقي درساً أو تجربة أو رأي من زاوية من زوايا الثورة وسأقول ما أستطيع قوله من دروس مستقاة من هذه التجربة.
* تقول هذه الثورة المباركة أن الكلمة و القلم هي أقوى سلاح يملكه صاحب حق ، وفوهته نار تحرق بمداده كل ظالم ، وسيف مسلط على رقاب كل مغتصب، فثورة تونس أشعلت وقودها فوهات الفيس بوك (القلم المعاصر)، وكلمات أطلقتها حناجر شباب أنطلقت من صميم قلوبهم ، بعد الذي عانوه ورأوه بأعينهم، من تهميش ، وكبت لتطلعاتهم وآمالهم ومستقبلهم وحتى لقمة عيشهم.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة بأنها أفضل الجهاد فقال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)،وبالكلمة كان يعلو ويسمو شأن قبيلة ، أو ينزل إلى الحضيض شأن قبيلة أخرى ، بسبب بيت أو قصيدة قالها شاعر.
* تباعد المسافات واختلاف المسميات والألوان والأجناس والحدود المصطنعة ، لن يكون يوما حاجزاً أمام تلاحم هذه الشعوب المسلمة وتعاضدها وتكاتفها، ومصيرها الموحد ، فمنذ اليوم الأول لانطلاق أحداث تونس تفاعل العالم العربي والإسلامي بكامله مع مطالب هذا الشعب وحريته ، وخرجت المظاهرات الداعمة له في مصر والأردن وسوريا والجزائر وموريتانيا.. هذا التلاحم يذكرنا بأيام حركات التحرير في العالم العربي وتلاحم الشعوب فيما بينها فساقية سيدي يوسف بين الجزائر وتونس شاهد ، واحتضان مصر لثوار الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي شاهد ودليل على هذا الرباط المقدس بين هذه الشعوب الذي ربطه الله تعالى بقوله: (إنما المؤمنون أخوة).
* حاول النظام السابق أن يمسح ويمسخ عقيدة هذا الشعب وتاريخه فاستخدم جميع الوسائل وجميع أدوات الضغط والإرهاب ، فمنع وحارب النقاب والحجاب ، وأغلق العديد من المساجد ، وغير الكثير من قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية ، وحارب كل ما يمت بصلة إلى دين هذه الأمة ، حتى إن الواقف على أبواب تونس، أو المشاهد لقنواتها الفضائية ليظن أنها نسخة من دول أوربا في مظهرها ، أو أن الإسلام لم يمر من هنا من قبل.
لكن هل نجح النظام بذلك أقول بكل تأكيد أنه لم ينجح فمجرد إنزياح هذه العصا والعيون التي كانت تراقب وتحسب أنفاس هذا الشعب ، عاد إلى دينه وأصله ، فامتلأت المساجد بأولئك العطشى ، وعادت صيحات الله أكبر تملأ الأفاق، وعاد الحجاب يزين عفاف وطهر المرأة التونسية.
هذا التغير والعودة إلى الجذور يؤكد أن الدين متأصل في عروق هذه الأمة وإن تفاوتت درجات الإلتزام والتقيد به ، هذا التغلغل عصي على الإجتثاث منذ أن زرع الإسلام تعاليمه في الرعيل الأول من هذه الأمة فطهرها من وثنيتها ، وأزال عنها أدران الشرك والمعتقدات الجاهلية ، وكيف لا يفعل الإسلام ذلك وهو دين الفطرة التي فطر الناس عليها ، وإن على علماء هذا البلد وشبابه أن يساهموا في إزاحة غبار وتراب هذه الأمة التي تلوثت طويلاً وحان وقت نظافها.
* الشعوب لا تقهر ولا تذل ، وهي الباقية وما سواها زائل ، حاول الإستعمار بكل ما أوتي من قوة عسكرية ومادية أن يحتل هذه الأرض وأن يخضع الشعوب لسلطانه لكنه خرج خائباً خاسراً ، وحكمت أنظمة فاسدة هذه الشعوب ، دمرت إقتصاده ، وحاولت مسخ شبابه ، وإخراج جيل مهزوز لا يملك من مقومات الرجولة إلا الاسم ، يسير خلف صرعات وتفاهات هنا وهناك ، لكنه لم يفلح وينجح كما أراد وخطط.
* الأنظمة الفاسدة ستصم آذانها وتغلق عيونها إلى آخر رمق في حياتها عن فهم شعوبها ومطالبهم ، ولن يحاولوا الفهم إلا إذا بلغ السيل الزبى وأصبح الخناق يضيق حول رقابهم.
الان فهمتكم ، مقولة تاريخية قالها الرئيس المخلوع ، حينما أحس أن كل شيء بناه بدأ ينهار، وأن كل ما حوله لن ينفعه من غضبة الشعب المقهور ، وكل تدابيره وأجراءاته التي اتخذها سابقاً أصيبت بنظرية انعدام الطاقة... وفي الحقيقة هو لم يفهم شعبه الآن وإنما فهمها من لحظة وصله الحكم ، لكن هذا الفهم هو القشة الأخيرة التي يتمسك بها ليحمي نفسه وما بناه من مجد وتاريخ.
هي مقولة ليست غريبة ، بل سيقولها كل من أحس أن قلاعه بدأت تتحطم وحصونه بدأت تدك ، ففرعون الذي ضربه الله مثلا على العلو والإستكبار واستعباد البشر ، وبلغ من الظلم والتكبر مبلغاً لم يبلغه أحد من البشر ، حتى أنه نازع الله سبحانه وتعاله في ألوهية عندما قال (أنا ربكم الأعلى) هذا الفرعون عندما أحس بأن عرشه وملك مصر وما بناه من مجد وتاريخ سيذهب وينهار وحياته في خطر قال (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا أول المسلمين).
وسنبقى نسمع هذه المقولة كثيراً على مر التاريخ والأزمنة والعصور ، مادام هناك ظالم وشعب مقهور.
* أن الظالم يعيش قلعة من الرعب ، تتمايل يمنة ويسرة ، يوحي لمن يراه أنه بطل يمسك بزمام الأمور كلها ، فهو يبتسم بثقة ويلقي خطابات نارية ، ويتخذ قرارات صارمة ، لكنه في الواقع نمر كرتوني جميل منمق ، يعيش في داخله عقدة الخوف والشعور بالذنب والخطأ ، وسيتذكر أجرامه كلما خلا بنفسه أو أوى إلى مخدعه ، ودليل خوفه كثرة الأجهزة والآلات المسخرة لحمايته ، فالحزب والأموال ، والشرطة ، وقوى الأمن كلها تصب في بوتقة واحدة.
ولو كان الرئيس السابق يملك أدنى مقومات النمر الحقيقي لدافع عن مجده وحقه ولو لشهر واحد، لكن هذا اليوم وخوفه وشعوره الداخلي ظل يطارده طيلة فترة حكمه ، كان ينغص عليه عيشه وحياته ومنامه على الرغم من توفر كل أسباب الراحة والسعادة والخدم والحشم.
* اسقاط الظلم ليس بالضرورة أن يصنعه الابطال المشاهير أو من يشار لهم بالبنان ، بل ربما يصنعه من إذا رأيته تزدريه عينك ، وهذا درس بضرورة الاستفادة من كل طاقة بشرية ، وعدم الاستهانة بها ، فالله عز وجل عاتب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما تنصرون بضعفاءكم).
ثورة تونس أوقد فتيلها ذلكم البائع المتجول الذي لا يجد لقمة عيشه ، ذلكم الرجل الذي صفعته إمرأة لهوانه عليها ، وإزدراءها له ، لكنه كان الفتيل الذي أوقد، والمصباح الذي أنار.
* وأخيراً عندما يكسر حاجز الخوف ، وعندما تصل الأمور بالشعوب أنها لا تفرق بين الحياة والموت وتصل إلى مرحلة اللارجعة ، فإن جميع الحواجز الأخرى ستنكسر.. البطش والإرهاب ، الخوف من المستقبل ، انقطاع الرزق ، الصوملة..
وستكتشف هذه الشعوب المنتفضة أن هذا الغول المخيف الذي طالما سمعت به الشعوب (الظروف الخارجية والإقليمية والدولية) ما هو إلا أداة من أدوات السيطرة والتخويف والتبرير للقهر والظلم التي يستخدمها الممسكون بتلك العصا الغليظة.
وستكتشف أن الشعب إذا أراد الحياة الحرة الكريمة ، وتوحد من أجل هدف واحد ، فلن يقف أمامه أعتى جيوش الأرض عدة وعتاد ، وهذا ما أثبتته تجربة تونس، وصدق الشاعر في مقولته:
تأبى العصي إن إجتمعن تكسراً **** وإن افترقن تكسرت أحادا
وستكتشف أن الإنتصارات تتحقق بقوة الإرادة، والقدرة على التضحية ، لا بقوة العتاد والإمكانات.
رحم الله شهداء ثورة تونس وأنار بهم درب الشعوب المتلهفة إلى يوم كيوم تونس وسيدي بوزيدي.

ليست هناك تعليقات: