الأحد، ٣٠ كانون الثاني ٢٠١١

ثورة شباب واعٍ يغيّر.. وليست ثورة غضب يدمّر

kolonagazza
متى تتخلّى النخب الهرمة عن سلطاتها.. في المعارضة أيضا؟..
نبيل شبيب
لعل أكثر الكلمات استخداما في متابعة أحداث تونس ومصر و... كانت كلمات "مفاجأة".. و "شباب".. والغضب.. فوجئ المستبدون بثورة الشعوب وصلابتها.. فوجئ الغربيون بخواء الأنظمة وسرعة تهاويها.. فوجئت النخب بما يصنع الشباب بالشعوب من "وراء ظهرها!" وهم لا يكادون يلحقون بها.. فوجئ المفكرون والإعلاميون بتتابع الأحداث بأسرع مما تستوعب رؤوسهم وتخطّ أقلامهم وتبدع قرائحهم و"تتواضع" تنبّؤاتهم.. فوجئ علماء السياسة المعتبرون والمحللون المتمرّسون بأن تنطلق شرارة بداية الثورات العربية الحديثة من تونس بالذات وأن تكون النقلة الأكبر الأولى إلى مصر تحديدا.. وربما كانت الفئة الوحيدة التي لم تُفاجأ كثيرا –وإن قيل آخرون عنها إنها فوجئت كسواها- هي الفئة التي صنعت الثورة، فئة الشباب من هذه الأمّة.
أما كلمة غضب، فقد أسيء استخدامها في كثير من الأحيان، إذ غطّى الحديث عن الجانب الطبيعي في التعبير عن غضب راكمته السنون والمعاناة، على تلك الدرجة العالية المشهودة من الوعي لدى "الشباب الغاضب"، التي عبرت عن نفسها في القدرة على الحفاظ على سلامة تحركه، رغم القمع الكبير في التصدّي لسلميّة تحركه، ثم الاستفزازات المتتالية التي واجهها، فضلا عن المراوغة المثيرة للغضب فعلا في تدنّي الاستجابة لمطالبه الثابتة الواضحة القوية الحاسمة، رغم أن انتصاره في جولة الكرامة التي خاضها والثورة التي صنعها صار أمرا محتما.

الشباب
من أين جاءت تلك "المفاجأة" الكبيرة إزاء ما صنع جيل الشبيبة في تونس ومصر.. (وسواهما.. فقد أصبح من المستحيل أن تنقطع هذه المسيرة)؟..
كنّا – نحن الذين تجاوزنا مرحلة الشباب.. ونتحدّث عنه، أو كان معظمنا- نرى الشباب القوي بأعيننا الكليلة، ونتابع أفكاره الوليدة المحلّقة في العلياء بقوالب أفكارنا المشدودة إلى الأرض، ونقيس مشاعره وأحاسيسه المتوهّجة مضاء وتفاعلا مع قضايانا وعالمنا وعصرنا الآن بمعايير انشغال بقايا حماستنا ببقايا خلافاتنا المستمرة المتوارثة على تعاقب العقود المتوالية من أعمارنا، وننتقد وسائله وأساليبه في التلاقي والتنادي والتحرك والعمل، لأنّه لا يخضعها لحكمة وصايانا وسداد نصائحنا وعصارة تجاربنا وبُعد نظرنا، وما دام لا يقيّد مساره بتوجيهاتنا فهو شباب متمرّد، وما دام لا يتحرّك من ورائنا فقد غلب عليه الموات، وكلما رصدنا منه فريقا يغنّي ويصفّق عمّمنا عليه وصمة الانحلال والضياع، ثم إنّنا نتحدّث عن الشبيبة حديثا عن فئة من الأعمار تفتقر إلى النضوج في نظرنا، متسرّعة في القرار والتصرّف، عاجزة عن الاستيعاب الشمولي للحدث والعالم، خيالية مثالية متناقضة مع الواقعية ومتطلباتها.. ثم رأينا "فجأة" أن "هذا الشباب".. صنع ثورة، وأن كل جانب من جوانب الفوضى المحدودة بالقياس إلى ما كنا نعتبره ثورات تاريخية متميزة، كان من صنع سواه وليس من صنعه، أفلا ينبغي أن يفاجئنا صنيعه؟..
في مصر، وسبق أن شهدنا في تونس شبيه ما شهدناه في مصر، كنا نتابع –ووجب أن نعجب- كيف يتمكن الشباب المتظاهرون وهم بعشرات الألوف في حي من أحياء القاهرة أو ميادينها، من دفع بعضهم بعضا إلى تفريغ شريط تمرّ عبره السيارات.. فهم لا يقلبونها، ولا يحرقونها، ولا يسبّبون ازدحاما، ولا تعطيلا للمصالح، ولا ينقمون على سائقيها وراكبيها ألاّ يشاركوهم فيما هم فيه..
كنا نرصد –ووجب أن نعجب- كيف تداعى الشباب لإقامة درع بشري من أجسادهم يحول دون المنحرفين وسلب محتويات المتحف القومي في القاهرة، ثم يستنجدون بجيش مصر ليحمي ممتلكات شعب مصر في المتحف وسواه..
كنا نرصد –ووجب أن نعجب- كيف يتمكن أولئك الشباب من التواصل بعد أن حاول النظام حصارهم بقطع خطوط الهاتف الجوّال وخطوط الشبكة العنكبوتية، فإذا بهم يتلاقون من كل حدب وصوب من جديد وتتحول مظاهرات المئات إلى الألوف، فعشرات الألوف، فمئات الألوف..
لقد أظهر شباب مصر وتونس –وهو ما يسري على شباب أمتنا في سائر أقطارها- أنه على درجة عالية من الوعي والانضباط والقدرة على التنظيم والتنفيذ في ظروف "ثورة" طالما كان يُعتبر من الأمور الطبيعية أن يقع خلالها ما يقع –ويُعذر- من القتل العشوائي، والتدمير العشوائي، والفوضى العشوائية، فلم تكن مشكلةُ مفاجأتنا بما صنع الشباب كامنةً فيه بل كامنة في تصوّراتنا الخاطئة عنه، وعن وعيه وطاقاته وقدرته على كتابة التاريخ بحروف أخرى غير التي طغت على أقلامنا في حقبتنا التاريخية من قبل.

الغضب
فاجأنا ما صنع الشباب وعمّمنا على ما يصنع –بقصد ودون قصد- وصف ثورة الغضب، والشعب الغاضب، والتعبير الغاضب.. ويغلب على فهمنا للغضب أنّه يعني التصرّف دون ميزان عقلاني، بما تمليه العاطفة، وما تصنعه اللحظة الآنية، وما لا ينضبط بحدود، وعلّمنا شباب تونس ومصر –جيل الشبيبة من أمّتنا- أن الغضب الواجب إزاء ما صُنع بشعوبنا وثرواتها، وبلادنا وقضاياها، ودولنا وأنظمتها، وما عانت منه الأكثرية الكاثرة من الشعوب، من مختلف الأعمار، وفي مختلف المواقع، وعلى كل صعيد.. يمكن أن يكون غضبا يصنع التغيير دون التدمير، ويستهدف من يستحقون الغضب وليس كل من يقف في وجوه الغاضبين دون تمييز.
كان ما استهدفه الغضب في مصر مركزا على مقارّ حزب استبدادي فاسد حتى النخاع، يحمل المسؤولية عن جرائم كبرى متوالية بحق الإنسان بلا انقطاع، ورغم ذلك لم يشمل -رغم البطش القمعي والاستفزاز- انتقاما من أشخاص، ولم يُصنع بمن كانوا يمارسون التعذيب الوحشي، ويعتدون على القضاة والمحامين والصحفيين والنساء والرجال والشيوخ والشباب، شيء من مثل ما كانوا يصنعون، ونجح المتظاهرون في إعطاء صورة مشرقة لتلاقي الفرد، المتظاهر على الأرض، مع أخيه الفرد في البزة العسكرية فوق دبابته، بعد أن أخفقت محاولة الشباب المتظاهرين أن يصنعوا شبيه ذلك مع أجهزة "أمنية" نزلت بكل فروعها وأسلحتها وعناصرها لمواجهة "الشباب الثائر"، ولم تستجب لنداء الأخوّة على ألسنة المتظاهرين، فأخفقت مرتين، في التصدي للتغيير الحتمي الجاري، وفي أن تصبح هي جزءا من التغيير، لإزالة طغيان.. انتهى عمره على كل حال.
ولقد عرفنا ما يعنيه غضب الجائعين في الثورة الفرنسية وما كانوا يمارسونه من انتقام بلا حدود ولا ضوابط، وعرفنا ما يعنيه غضب الحزبيين الشيوعيين تجاه القيصرية الروسية وما مارسوه من سفك للدماء بلا حساب، وعلّمنا "غضب" الشبيبة في تونس ومصر (وقد يعلمنا في سواهما.. ما لم يتعظ الباقون من المستبدين بمصير المقهورين الراحلين).. أنّ له في بلادنا، في مجتمعاتنا، في ثوراتنا، لدى شبيبتنا، مفهوما آخر، وتطبيقا آخر، أرقى من كل ما كانت تصوّراتنا توحي به، وأنصع من كلّ ما يمكن التعبير به عنه في سجلّ التاريخ.

النخب
ليس صحيحا أن الثورة في تونس ومصر (ويسري هذا على من سيليهما) هي ثورة الشباب فقط، هم صنعوها فهم قادتها، إنّما شارك فيه الكبير والصغير، المرأة والرجل، الأمهات والآباء، شارك فيه الشعب بمختلف فئاته، من مختلف الأعمار وعلى تعدّد التصنيفات، هي ثورة شعبية قد لا يسري مثل هذا الوصف على سواها فيما مضى من تاريخ الأمم والشعوب، فلم تكن ثورة طبقة على طبقة كما كان في فرنسا، ولا داخل نطاق الطبقة الحاكمة كما كان في إنجلترا، ولا كانت ثورة حزب على دولة كما كان في روسيا، ولا كانت ثورة تنظيم على طاغية كما كان في إيران.. بل كانت ثورة الشعب التي أشعلها جيل الشبيبة، وحاول سواهم اللحاق بهم، فنجح العامة من بقية فئات الشعب في ذلك نجاحا كبيرا، ولم تنجح النخب الحزبية وسواها إلا نجاحا جزئيا.
وكم اعترض بعضنا على تحذير بعضنا من تشبّث جيل الشبيبة بطريق جيلنا من الشيوخ والكهول وعلى وصف أنفسنا بأننا "جيل عصر النكبات"، وكم شدّد معترضا على ذكر بعض ما أنجز ذلك الجيل.. وصحيح أن "بعض ذلك الجيل" أنجز "بعض الواجب"، إنّما لم يكن كافيا وافيا، ولا منع استمرار الكوارث على منحدر عصر الانحطاط، ولا يغني ما صنع عمالقته الكبار ومصابيحه الهداة عمّا لم يصنعه سواهم من جيلنا.
ويجب أن ندرك ونحن نعايش حقبة التغيير بين عصر النكبات وعصر جديد بإذن الله.. أن على جيلنا أن يتخلّى عن مواقع القيادة والتوجيه لجيل جديد قادر على صنع ما نتمنّاه ونصبو إليه ولم نستطع صنعه حتى الآن، فالراية الآن رايته، والراية غداً رايته، وبقدر ما يتشبّث جيلنا نحن بإمساك الراية بأيدينا، بقدر ما نعيق تقدّمه لتحقيق ما نريد ويريد.
ما يزال جيلنا يمسك بالنسبة الأعظم من أجهزة قيادات الأحزاب والجماعات المعارضة ومنظمات المجتمع الأهلي ومؤسسات العمل الخيري وكلّ شكل من أشكال التنظيم والعمل والتعبير والنشر وسوى ذلك ممّا "تركته" سلطات الاستبداد لنا –بعد تقديرها لحقيقة مفعوله المحدود على الأرجح- وما يزال جيلنا يأبى فكاكا عن تلك المواقع، إلا عبر الضغوط والثورات الصغيرة على بعضنا بعضنا.. وإنّ هذه المنابر القيادية المتقدمة في السنّ هي هي الآن مثلما كانت عليه في مواقع القيادة عبر ثلاثين عاما أو أكثر، ولقد كانت تطالب آنذاك، بما تطالب به الآن بعد ثلاثين عاما أو أكثر في مواقعها القيادية، فتقول: يا أيها الحاكم الفلاني في تونس.. في سورية.. في مصر.. في اليمن.. في ليبيا.. وفي.. وفي.. علام تتشبث بالسلطة منذ ثلاثين عاما أو أقل أو أكثر؟..
إن بعض من يتشبثون بمواقعهم القيادية كانوا عندما استلموها –وإن تبدلت بعض الوجوه بأخرى.. ولقد تبدّل بعض وجوه المستبدين أيضا- في مثل أعمار تلك الفئة من الشبيبة التي تصنع التغيير الآن، والتي امتنعوا حتى الآن عن التنحّي لتمكينها من الحلول في مواقع القيادة والتوجيه.. ولهذا يبدو لنا كما لو أنّ الشبيبة تصنع التغيير الآن من وراء ظهر النخب وأحزابها وتنظيماتها المختلفة!.
إن أهمّ دروس هذه الثورة الزاحفة من منطلقها الأول في تونس لتعمّ كل قطر يحكمه الطغيان، هو أهمية انتقال رايات القيادة ومواقع صنع القرار من جيل إلى جيل في الوقت المناسب، قبل أن تتحوّل النخب إلى مجموعات هامشية كأنها من كوكب آخر.. مثل حال فئات ممارسة الاستبداد في بلادها، وقبل أن تتكلّس وتتصلّب الأحزاب والجماعات والتنظيمات مثلما تتصلّب أجهزة الفساد والاستبداد في مواقع احتكار السلطة.
القيادة أمانة وتكليف، وليست ميزة وتشريفا، والقيادة مسؤولية جليلة وليست غنيمة كبرى، وإن القيمة النوعية للقيادة في كل إنسان ترتفع بقدر ما يستوعب أهمية انتقال زمامها من يديه إلى أيدي سواه في اللحظة المناسبة الواجبة، ومن يستوعب هذا الدرس يساهم في تحقيق مصلحة أمته، ومن لا يستوعبه لا بد أن ينزلق –وإن أخلص- في ارتكاب خطأ جسيم بحق نفسه وبحق مصلحة أمته.
هذا درس من دروس الثورات الشعبية الجارية في بلادنا، إن عجز بقايا الطغاة عن استيعابه قبل أن يفوت الأوان عليهم، فلا يغني ذلك شيئا عن حقيقة أنه يجب أن يدركه جيلنا نحن الآن في جماعاتنا وأحزابنا وفي مختلف مواقع التأثير في حياة أمتنا، لنستدرك ما يمكن أن نستدركه.. قبل فوات الأوان، كما أنّه الدرس الأكبر الذي ينبغي أن يدركه جيل الشبيبة الثائر، فلا يكرّر في المستقبل أخطاء سواه، سيّان إن كانوا يستحقون التكريم على ما أنجزوه من قبل، أو كانوا من الطغاة فهم يستحقون –ما لم يستبقوا خطوات التاريخ المتسارعة- مصير من سبقهم على درب الانهيار المحتم.

ليست هناك تعليقات: