الأحد، ٣٠ كانون الثاني ٢٠١١

من تونس إلى القاهرة: من هم "الثوار الجدد" ؟

kolonagazza
عريب الرنتاوي
من هم "الثوّار الجدد" الذين ملأوا الأرض والفضاء في تونس والقاهرة وصنعاء وغيرها من العواصم والمدن العربية ؟...من أين جاءوا، من أية خلفيات طبقية وثقافية واجتماعية وسياسية تحدّروا؟...ما هي أهدافهم وطموحاتهم؟...وكيف نقرأ شعاراتهم وهتافاتهم؟...أسئلة وتساؤلات، وعشرات غيرها تزدحم في الأذهان المنهمكة في محاولة لفهم مفردات "الزمن التونسي الجميل".
هم شبان وشابات، غالبيتهم في العقدين الثالث والرابع من العمر، يتحدرون من الطبقة الوسطى، أو حتى من شرائحها العليا، صلتهم وثيقة بالعالم الخارجي، يتقنون فنون الاتصال و"العزف" على "الفيسبوك" و"توتر"...ليسوا فقراء معدمين ولا جياع مهتاجين...ليسوا سياسيين أو حزبيين...لقد عبروا من فوق الأحزاب والتيارات التي نعرف، وسبقوا قياداتها الهرمة إلى الميادين والشوارع ليصنعوا فجراً جديداً لأمتهم وشعوبهم.
هم أنفسهم الذين طالما سخرنا من اهتماماتهم "السخفية" وألعابهم الالكترونية وعزلتهم خلف أجهزتهم...هم أنفسهم الذي طالما نظرنا إليهم ب"دونية"، لأنهم ما اعتادوا اجترار الهتافات والشعارات الكبيرة من دينية ويسارية وقومية، التي فصّلت على مقاس الأحزاب والزعامات...هم أنفسهم الذين طالما حاولت أنظمتنا وحكوماتنا إقناعنا بأنهم ليسوا منّا ولا هم يشبهون جيلنا، وأنهم أقرب إلى الحزب الحاكم و"النخب النيوليبرالية الجديدة".
لكنهم أوقعونا على ظهورنا من الدهشة، وعقدت مفاجآتهم ألسنة حكوماتنا وأنظمتنا على حد سواء...أدهشونا عندما تكشفوا دفعة واحدة عن كل هذا الطاقات الجبّارة على العمل والتنظيم والتضحية...ادهشونا بهذا المخزون الهائل من الوعي والنضح والتفتح والانفتاح...وفاجأوا حكوماتنا وأنظمتنا بمستوى كراهيتهم لسياساتها ومواقفها، بحدة رفضهم لفسادها وخنوعها...إنه جيل يريد الثأر لكرامة أمة، استبيحت على عتبات "أفران العيش" ومطاردة "خبزنا كفاف يومنا"...كرامة أهدرت على عتبات التبعية المذلة لدوائر القرار الدولي والتفريط بالمصالح والحقوق والأدوار والسيادة والاستقلال.
أنظروا إلى هتافاتهم وشعاراتهم، تفحّصوها جيداً...لم يأتوا من أجل "كروشهم" على حد تعبير شاب تونسي معتصم أمام مبنى الحكومة التونسية الجديدة...أنهم يصرخون ضد الفساد في ميدان التحرير ويطالبون بالحرية في السويس، رمز حرية مصر وتحررها وانعتاقها...إنهم يصرخون ضد الجدار الذي يفصل مصر عن غزة، كما هتف شاب مصري ثلاثيني يحمل طفلته على كتفيه في ميدان التحرير...إنهم يحذرون من ضياع النيل بعد أن ضاع جنوب السودان، إنهم يريدون الثأر لكرامة دولة كانت دائما كبيرة، قبل أن يهبطوا بها إلى أسفل درك.
لم تغب الشعارات والهتافات المطلبية والاجتماعية والاقتصادية عن المتظاهرين، فهذا أمر هام وضروري، يحسب لهم لا عليهم، والانتفاضة التونسية /العربية في الأصل، اندلعت شراراتها الأولى من آلام البطالة والفقر والجوع...لكن "الثوار الجدد" لم يكتفوا بطرح هذه الشعارات وحدها، فهم يدركون أكثر من غيرهم، أن جوعهم وبطالتهم وفقرهم، عائد لفساد حكوماتهم وأنظمتهم، وليس لانعدام موارد بلادهم...لقد أراد زعماؤنا إقناعنا بأن فقرنا وجوعنا وبطالتنا قدرٌ لا رادّ له، وأنه – لحكمة إلاهيّة – لم نُمنح الموارد الكافية، إلى أن جاءت الانتفاضة التونسية/ العربية لتقول: أنه مقابل ملايين الفقراء الذي يزدادون فقراً، هناك أغنياء يزدادون غنى وبغير وجه حق...مقابل الجوع والجياع الذين ينتشرون في كل بلدة ومدينة وقرية، هناك المتخمون الذي تزداد بطونهم "تكرّشاً" وجيوبهم انتفاخاً...ومقابل جيوش العاطلين عن العمل، هناك مليارات الدولات المهرّبة إلى مصارف سويسرا وأوروبا، التي إن استثمرت في موطنها الأصلي، لما ظل عاطل واحد عن العمل.
انتفاضات تونس والعالم العربي، ربطت بإحكام بين الاقتصاد والسياسة، وقاربت الإصلاح من منظوره الشامل، هكذا من دون تنظير، ومن خلال الشعارات التي تتدفق على ألسنة المحتجين بسلاسة وإبداع مثيرين للانطباع، وبالضد من كل محاولات الأنظمة والحكام التلهي بفصل الإصلاح السياسي عن الاقتصادي، أو السياسي عن الإداري، لتكون النتجية لا أصلاح في أي من هذه الميادين، بل مزيد من الفساد والإفساد والخراب.
ها هم شبان وشابات "الانترنت والموبايل" يقودون شيوخ الحركات الإسلامية وكهول الفصائل اليسار والتنظيمات القومية، إلى ضفاف الحرية والكرامة، ها هم الشبان والشابات، يطلقون ثورة "الديجيتال"، لقد كرهنا هذه الكلمة التي ارتبطت برموز "النيوليبرالية" ووزراء الفساد والقصور المليونية، ها هو "الديجيتال" يعود للشارع كأداة عملاقة لتنظيم وتحريك الثورات المظفّرة، التي تعيد للعربي ثقته بنفسه، وتعيد تموضعه في خريطة الأمم والشعوب، بعد أن كاد العالم ينظر إلينا كقطعان سائبة، لا يجمعها جامع، ولا يحركها دافع أو حافز، ها هي روح تونس الوثّابة، تطوف في أرجاء الوطن العربي، من محيطه الهادر، إلى خليجه الذي لن يظل ساكنا، وللقصة بقية، فالحلقات ال"22" من هذا المسلسل بالكاد بدأت.

ليست هناك تعليقات: