الثلاثاء، ٢٤ آب ٢٠١٠

الاحتلال وصناعة الأكاذيب...

kolonagazza
ديمقراطية شعبية
بقلم : عوني صادق

منذ أسابيع أصبح الخبر الأهم المتعلق بالعراق هو ما يقال عن (الانسحاب الأمريكي) من هذا البلد العربي . ولكثرة ما قرأت وسمعت أخباراً وتحليلات في الصحف وعلى المواقع الإلكترونية ومن الفضائيات، كدت أصدق أن انسحاباً لقوات الاحتلال الأمريكي من العراق هو بالفعل على وشك أن يتحقق . والملاحظ أن الجميع يتحدث ويسهب في الحديث، عن عدد القوات التي ستنسحب، وعن الآثار التي سوف يتركها هذا (الانسحاب) على الأوضاع الداخلية للعراق . الجميع يتساءل ويسأل: هل ستقع الحرب الأهلية؟ من سيملأ الفراغ الأمني؟ إلى أين سوف تتجه الأمور؟ ماذا سيحل بالمنطقة؟ كيف سيؤثر (الانسحاب) في دول الخليج؟ وماذا بشأن إيران؟ كيف ستتعامل “إسرائيل” مع الحدث، وبأي اتجاه سيؤثر في تسوية الصراع العربي “الإسرائيلي”؟

باختصار، كل شيء جعله (الانسحاب) مطروحاً للتساؤل والبحث، كأن العراق بل المنطقة لم يكونا موجودين قبل الغزوة الأمريكية . والأهم من ذلك أن الأمور تطرح كأن مسألة انسحاب القوات الغازية أصبحت حقيقة وجدية، مع أنها ليست أكثر من (إعادة انتشار للقوات)، وفي أحسن توصيفاتها (تخفيضاً للقوات)، وبزعم أن (الانسحاب النهائي) سيتم في نهاية العام المقبل . كذلك يفترض أن (حدثاً) كهذا يذكّر أول ما يذكّر بالواقعة الأصلية التي صنعته، أي بواقعة الاحتلال . واللافت أنه وسط الجلبة المسموعة لا تجد سوى قلة قليلة فقط هي التي تحدثت عن، أو تعرضت لهذه الواقعة حتى بدا الأمر كأن الله خلق العراق محتلاً من الأمريكان وهو اليوم على وشك أن يغادر، إلى المجهول، وضعه الطبيعي الذي وجد عليه .

أي احتلال وأي استعمار، وكل احتلال وكل استعمار يبدأ مشروعه بكذبة، أو بمجموعة أكاذيب، يقوم عليها ويبرر نفسه من خلالها، وعندما يصبح واقعاً يتحول بالضرورة إلى مصنع للأكاذيب، ينتجها ويعيد إنتاجها في سلسلة متصلة لا تنتهي إلا إذا وضع الشعب حداً لذلك . ومن قديم الزمان كانت دائماً حجة الدول الاستعمارية القديمة التي بررت بها احتلالاتها (كذبة نبيلة) هي (نقل المدنية إلى الشعوب المتخلفة والهمجية)، وعلى نهج الاستعمار القديم سار الاستعمار الجديد، مع بعض التغييرات غير الجوهرية .

لقد جاء احتلال العراق بحجج ومزاعم وادعاءات ثبت فيما بعد أنها كلها محض أكاذيب، أولها نفس الكذبة النبيلة، حملت الاسم الكودي (حرية العراق)، ثم تبعتها مجموعة أخرى من الأكاذيب كمبررات بدءاً بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وانتهاء بالإرهاب والعلاقة مع تنظيم “القاعدة” . ومجموعة ثالثة كأهداف مزعومة للغزوة مختصرة في (نشر الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان) . هكذا كانت مبررات الاحتلال وكانت أسبابه وأهدافه، فهل تحققت الأهداف لتقرر إدارة أوباما الانسحاب؟

بعض المراقبين المؤيدين لأوباما يرون أنه يريد بقراره أن يظهر كمن يفي بتعهداته، فيرسل ثلاث رسائل دفعة واحدة: الأولى للعراقيين يقول لهم فيها إنه سيترك لهم بلادهم، ويذكّرهم أن الأمريكيين لم يأتوا طامعين فيهم أو في نفطهم .

والثانية إلى الأمريكيين، يقول فيها إن أبناءهم سيعودون إليهم في وقت قريب، إن دعموه ودعموا حزبه ليظل في البيت الأبيض لولاية ثانية .

والثالثة إلى الأفغان، يخبرهم أنه لا ينوي البقاء في بلادهم . والحقيقة أن من يدقق يكتشف أن الرئيس أوباما لم يسلك طريقاً غير طريق سلفه في أي شيء قصده وسار إليه، ويظهر ذلك في ضعف رسائله الثلاث . فأولاً، أي (انسحاب) هذا الذي سيترك وراءه خمسين ألف جندي؟ ولماذا يتركهم ما دامت القوات العراقية أصبحت جاهزة؟ وثانياً، معروف أن “الاتفاقية الأمنية” هي التي ستحكم العلاقة بين البلدين بعد (الانسحاب النهائي)، حيث سيبقى “بضع مئات من الضباط والجنود بمعداتهم لأغراض التدريب والمشورة”، في “بضع قواعد”، كما قال المسؤول العسكري عن العراق . وليس هناك من يجهل ماذا تعني “الاتفاقيات الأمنية” التي تعقد تحت الاحتلال مع القوات المحتلة . وثالثاً، من يستطيع أن يضمن، مثلاً، ألا (تفرض) الظروف تأجيل الانسحاب النهائي، بل من يستطيع أن يضمن ألا (تفرض) المصالح الأمريكية إعادة بضع عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين؟ وكيف يمكن أن تحمل رسالة أوباما إلى الأفغان أي قدر من الصدقية وهم يرون أن القوات التي ستنسحب من العراق تنسحب لتعزيز القوات التي تقتلهم وتدمر بلادهم؟

لقد نجح الغزاة الأمريكيون وحلفاؤهم في إرجاع العراق ربما إلى “العصر الحجري”، كما وعدوا، ثم قطعوا كل سبل عودته إلى العصر الحاضر بتقطيع أوصاله، طائفياً ومذهبياً وعرقياً، فلماذا “الاتفاقيات الأمنية”؟ ولماذا يبقون من خلالها إذا كانوا قد أنجزوا مهمتهم، ولم يكونوا طامعين في نفط العراق وموارده؟

لكن أغرب ما يتصل بهذا الموضوع هو ذلك السجال الدائر بين قوات الاحتلال الأمريكي وبعض (زعماء وقادة العراق)، حيث (يصرّ الأمريكيون) على تنفيذ (الانسحاب) في موعده، بينما (يطالب العراقيون) بتأجيله عشر سنوات أخرى . العسكريون الأمريكيون يعلنون جاهزية القوات العراقية لاستلام البلد وإدارة أموره وحفظ أمنه، والعسكريون (العراقيون) ينفون ذلك ويناشدون أوباما تأجيل انسحاب القوات . إن المطالبين ببقاء قوات الاحتلال الأمريكية يرسلون إلى العالم أسوأ رسالتين يمكن أن تصدرا عن بلد واقع تحت الاحتلال: الأولى، تؤكد على جدية (الرسالة الحضارية) للمستعمرين . والثانية، تحول المستعمر إلى منقذ ومخلص . وفي كلتا الرسالتين تزوير ما بعده تزوير . حديث الانسحاب يجب أن يذكّر الجميع بالاحتلال وما فعله، وما يمكن أن يفعله، فالذكرى تنفع المؤمنين .

ليست هناك تعليقات: