الجمعة، ٢٠ آب ٢٠١٠

الوضـــع الــــدولي

kolonagazza
aeed Nashaie
بما إننا تناولنا علاقة مصر بالعروبة والإسلام مع الإشارة بشكل خاص للعلاقة مع السودان نستكمل الرؤية المحيطة بمصر في العالم، حتى نعود ونتفرغ لرؤيتنا للإصلاح في الداخل.
الوضع الدولي فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وضع موات لكل أمة تريد أن تنهض وبصورة مستقلة. فعندما يختل الوضع الدولي ويكون فى حالة انتقال من وضع إلى وضع آخر فإن هذا يضعف قبضة القوى المهيمنة وتتيح الفرصة للأمم المستعبدة أن تنهض وتستقل بقرارها ومصيرها.
فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر التابع له فى 1991 تصور البعض أن هذا هو عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم، وقد رفضنا ذلك فى حينه وقلنا أن القوة الأمريكية الشاملة فى حالة تراجع وأن العالم يتجه إلى حالة من التعددية الجديدة.
والآن أصبحت الصورة واضحة، فكل التقارير الإستراتيجية تؤكد استمرار تراجع الولايات المتحدة، وصعود الصين إلى المرتبة الاقتصادية، الأولى عام 2020 بل لقد تغلبت على أمريكا الآن فى العديد من المؤشرات الاقتصادية، كتحقيق فائض فى الميزان التجاري، وتحول الصين إلى أكبر دائن لأمريكا, وتحويل الصين إلى الدولة الأولى الجاذبة للاستثمار. كذلك وفقا للمؤشرات التجارية فإن الاتحاد الأوربي سبق الولايات المتحدة، النهوض الآسيوي فى جنوب شرقي آسيا- تحول الهند إلى دول عظمى- ظهور كتلة أمريكا اللاتينية – ظهور نواة كتلة إسلامية سياسية واقتصادية (إيران –تركيا- سوريا- ماليزيا- السودان). استمرار سعي روسيا لاستعادة نفوذها وتأثيرها ولكن ضمن خط متعرج وغير مستقر بين التوجه الأوروبي والتوجه الآسيوي. وتؤكد كل الدراسات العلمية والمستقبلية أن القرن الواحد والعشرين هو قرن آسيوي وأن أمريكا انتهى قرنها فى القرن العشرين، وتعيش الآن فى البواقي الأخيرة. وقد رفض كثيرون الاعتراف بهذا التحول نحو عالم أكثر تعددية, بسبب الثقة العسكرية الأمريكية الطاغية التى لم تعد تنافسها قوة عسكرية مكافئة والواقع أن روسيا لديها قوة عسكرية مكافئة لكنها لا تزال تواصل تجنب الأزمات مع الولايات المتحدة ويحكمها منطق المساومات أكثر من المواجهة والواقع فإن الولايات المتحدة بدأت تقدم تنازلات لروسيا (فى عهد أوباما- ميد يفيديف) لاحتوائها قدر الإمكان: كتسكين أزمة جورجيا وتأجيل الدرع الصاروخي مع تقدم بعض الجوائز الاقتصادية والتوقف عن تقويض دائرة النفوذ الروسي غربا وجنوبا.
كذلك فإن الصين من الناحية العسكرية تتقدم بشدة وهى تملك أكبر جيش فى العالم، ولديها من ترسانة الصواريخ النووية ما يكفى لتدمير أجزاء واسعة من الولايات المتحدة. وتواصل الصين بناء ترسانتها العسكرية على مختلف المحاور خاصة البحرية مع نشر مزيد من القواعد فى آسيا. ولكن الصين تصارع الولايات المتحدة بطريقتها الخاصة الناعمة، فى المجال الاقتصادي وتقتلع المكانة الاقتصادية الأمريكية يوما بعد يوم، وهى لم تكتف بغزو السوق الأمريكي ولكنها غزت أسواق أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوربا وآسيا وتحولت إلى مارد اقتصادي بكل معنى الكلمة، ثم تحولت إلى تصدير الاستثمارات ثم تحولت إلى أكبر مستورد للنفط ومختلف المواد الأولية. والصين وإن ظلت تواصل تطوير بنيتها العسكرية، فإنها تتجنب الدخول فى أي استفزازات مع الولايات المتحدة فى أي مكان من العالم، إلا فى منطقة شرق آسيا، وقد حدثت أزمات متعددة ذات طابع عسكري فى منطقة بحر الصين، ورسالة الصين للولايات المتحدة: إن هذه منطقتي وعليك مراعاة ذلك.
بالإضافة لذلك حدثت طفرة فى وضع الهند، وأصبحت فى مصاف الدول العظمى اقتصاديا (الدولة الرابعة) وعسكريا بامتلاك الترسانة النووية والصواريخ بعيدة المدى. وبين الهند والصين تكونت مجموعة نمور جنوب شرقي آسيا (الآسيان) وقد أصبحت قوة اقتصادية لا يستهان بها، حتى لقد أصبحت التجارة عبر المحيط الهادي (بين آسيا والأمريكتين) أكبر من التجارة عبر الأطلنطي (بين الأمريكتين وأوروبا) وفى أمريكا اللاتينية تحولت معظم القارة إلى موقف استقلالي عن الهيمنة الأمريكية، وبدأت تنشئ سوقها المشترك الخاص (الميركسور)، بالإضافة لظهور الإرادة السياسية المستقلة فى فنزويلا والبرازيل وبوليفيا وغيرها.
وفى أقصى جنوب القارة الأفريقية تقوم جنوب إفريقيا بتشكيل رأس لمجموعة اقتصادية إفريقية.
وقد لا يشعر كثيرون بكل هذه التطورات لأن معظمها فى المجال الاقتصادي، وأن القوة العسكرية الروسية أو الهندية أو الصينية ليست فى حالة مواجهة، مع الولايات المتحدة بل كل من القوى الأربع تحاول أن تتجنب ذلك، باستثناء التماس العسكري الذى حدث فى أزمة جورجيا، والتوترات المتقطعة بين الصين وأمريكا فى بحر الصين. ولكن لا يمكن لأي قوة عظمى أن تواصل هيمنتها على العالم فى ظل تراجعها الاقتصادي المتوالي. بل هذا ما حدث بالفعل فالولايات المتحدة تراعي المراكز الاقتصادية المتصاعدة لكل هذه القوى الآسيوية واللاتينية ولا تستطيع أن تملى أو تفرض عليها ما كان بإمكانها أن تفعله من قبل. كما أن تعاملها مع الهند يتم بصورة ندية متكافئة، بعد أن فرضت الهند نفسها على الساحة الدولية.
أما النمور الآسيوية التى نشأت أساسا فى إطار التبعية السياسية، فإن قوتها الاقتصادية المتصاعدة تمكنها من ممارسة إرادة مستقلة فى العلاقات الدولية.
أما اليابان فهى بعد أن تحولت إلى عملاق اقتصادي تحتل المركز الثاني فى العالم، تتجه إلى التراجع، بسبب إصرارها على الاستمرار فى لعب دور القزم السياسي التابع للولايات المتحدة. وتحول الاتحاد الأوروبي إلى عملاق اقتصادي يتعامل مع الولايات المتحدة بصورة ندية خاصة فى الأمور الاقتصادية والتجارية, وبالمعنى الحرفي فإن الولايات المتحدة لا تمارس سطوتها الامبريالية التقليدية، إلا فى الوطن العربي وأجزاء واسعة من أفريقيا، وبعض البلاد المتناثرة هنا وهناك. وقد أكدت خبرة السنوات القليلة الماضية أن القوة العسكرية الأمريكية لا يمكن أن تغطى على التراجع العام للقوة الأمريكية فى شتى المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية فكانت الهزائم والتجارب العسكرية الفاشلة فى العراق وأفغانستان, وتجارب الفشل للحليف الأصغر (إسرائيل) فى لبنان وغزة, أكبر دليل عملي على أن تراجع القوة الأمريكية أصبح مسألة واقع لا مراء فيه. (راجع التفاصيل فى كتاب أمريكا طاغوت العصر- الطبعة الثالثة –إن شاء الله ).
إذن لقد قام العرب والمسلمون من خلال مقاومة الاحتلال الأمريكي- الصهيوني بعمل تاريخي فقد هزموا القوة العسكرية العظمى لهذا التحالف, دون الاستناد إلى قوة عظمى أخرى كما كان يحدث خلال فترة الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وأهينت القوة العسكرية الأمريكية وفقدت هيبتها وتبعتها العسكرية الإسرائيلية فى هذا الطريق.
قد تبين خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة [2008-2010] والتى لم تنته فصولا بعد, أنها فى الجوهر أزمة أمريكية ثم أزمة أمريكية- أوروبية, أما باقي المراكز الاقتصادية فى العالم فقد امتصتها سريعا وواصلت معدلات النمو المعتادة لها، فما تعرضت له آسيا وأمريكا اللاتينية كان مجرد انعكاس للأزمة الأمريكية عليها, وقبل هذه الأزمة وبعدها فإن ما يسمى الدول الناهضة هى التى تعطى معدل نمو ايجابي لاقتصاد العالم وعلى رأسها: الصين والهند, وتضاف إليهما روسيا والبرازيل وتركيا ودول جنوب شرقي آسيا, حيث تختلف القائمة من عام لآخر، ولكن تصدر الصين والهند لأعلى معدلات نمو فى العالم هو الأمر الثابت فى العقد الأخير.
هذا الانكسار الاقتصادي الذى أصبح واضحا فى الأزمة الاقتصادية الأخيرة، الذى يترافق مع الانكسار العسكري أمام مقاومة العرب والمسلمين, أصاب المكانة القيادية للولايات المتحدة فى مقتل، وأدخل العلاقات الدولية إلى مزيد من حالة السيولة. فاقتصاديا الأرض تنسحب من تحت أقدام (الولايات المتحدة)، وعسكريا أمريكا لديها قوة لا تعرف كيفية استخدامها للحفاظ على مصالحها، بل أصبحت تعانى من الإنفاق على هذه الآلة العسكرية.
وفى نفس الوقت لا يوجد زعيم بديل يطرح نفسه برؤية سياسية اقتصادية ثقافية حضارية شاملة, ولكن كل من الصين والهند وروسيا يبحث عن مصالحه القومية والاقتصادية, ولا يهتم حتى الآن إلا بمجرد كسب الأرض فى هذا الميدان.
والسيولة تأتى من هنا, فقائد العالم السابق أو المتجه للإحالة للمعاش, لم يعد مسيطرا على مجريات الأمور فى الكرة الأرضية, ولكنة يبدو كقائد فعلي بحكم عدم تقدم بديل ليحل محله لعدم توفر هذه الرغبة بناءا على حسابات المصلحة الإستراتيجية فعلى الصين والهند وروسيا القيام بمهام عديدة فى محيطها الإقليمي قبل إثارة المشكلات فى أماكن بعيدة, وترى الصين أنها تجتث جذور أمريكا الاقتصادية فى كل مكان بما فى ذلك السوق الأمريكي نفسه، والحكمة الصينية تقول أن هذا يكفى جدا فى هذه المرحلة أما خريطة القوة الحقيقية للولايات المتحدة، فهى تحالفها مع الاتحاد الأوروبي الذى تقدم له الحماية النووية والعسكرية والهيمنة على الوطن العربي وما فيه من منابع البترول-وأجزاء واسعة من أفريقيا. على أساس وراثة النفوذ الانجليزي– الفرنسي. وكلما أدركت أمريكا تراجع قوتها العالمية كلما ازداد تركيزها على ما يسمى (منطقة الشرق الأوسط) أي قلب المنطقة العربية الإسلامية لموقعها الاستراتيجي المتميز فى منتصف العالم، ولما بها من خزان نفطي، بالإضافة للتحالف مع الكيان الصهيوني. ولم يكن من قبيل الصدفة أن الجيش الأمريكي لم يقم بأي أنشطة تذكر فى أي مكان آخر من العالم، وأن 99% من نشاطه العسكري الفعال (أي غير الروتيني) هو فى هذه المنطقة والولايات للمتحدة لم تحكم قبضتها على المنطقة بهذه الجيوش التى رأينا ماذا فعلت بها المقاومة؟ ولكن أحكمت قبضتها بالنظام الرسمي العربي، حيث أقامت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعلى مراحل علاقات مؤسسية مع معظم الأنظمة العربية بحيث أصبحت التبعية للولايات المتحدة هى الدستور الحقيقي للبلاد. وهذه الطبقات والشرائح الرخوة فى الحكم مستسلمة تماما للنفوذ الأمريكي، ولا تملك حتى أدني رغبة أو استعداد لممارسة روح المغامرة ،ومعظم هذه البلدان خاصة فى الخليج هم فى حكم البلاد المحتلة بصورة صريحة. ومن هنا ستظل مهمة العرب و المسلمين التاريخية مواصلة جهادهم لتحرير البشرية من النير الأمريكي، ليس فى مجال المقاومة فحسب حيث تم وضع حدود واقعية للعسكرية الأمريكية ولكن أيضا فى إعادة بناء النظام الدولي الجديد.
وقد اشرنا مرارا فى أدبياتنا إلى أهمية التحالف العربي– الإيراني باعتباره نواة التحالف العربي الإسلامي على أساس أن إيران أول دولة إسلامية تحطم أطر التبعية للغرب عبر ثورتها التاريخية. وكان التحالف الإيراني- السوري- اللبناني– الفلسطيني بالإضافة للمقاومة العراقية والأفغانية والباكستانية هو نواة القطب العربي- الإسلامي ليس فى المنطقة فحسب بل فى العالم بأسره. ثم أخيرا جاء الموقف التركي ليقلب الموازين أكثر لصالح الأمة، وان كان ذلك من خلال الموقف السياسي والاقتصادي ،وإن استدارة تركيا العدالة والتنمية نحو أمتها الإسلامية (وهى الأمة العربية بحكم الجوار) غير خريطة المنطقة بأسرها. وأصبح القطب العربي- الإسلامي أكثر وضوحا وتبلورا واتساعا، بل وأصبح له دور ملموس على المستوى العالمي (اتفاق البرازيل- تركيا-إيران حول المشروع النووي الإيراني). وقد حققت تركيا خلال 7 سنوات فحسب معدلات مذهلة فى التنمية والنمو على المستوى العالمي– وأصبح اقتصادها فى المركز الـ 17 على مستوى العالم وحقق عام 2009 المعدل الثالث فى النمو على مستوى العالم بعد الصين والهند. إذن نحن لا نتحدث عن مجرد إضافة بلد وإنما قطب كبير ورغم البعد الجغرافي نضم لهذه الكتلة: ماليزيا والسودان وكل هذه الأطراف بينها علاقات ثنائية مكثفة، وإن لم تأخذ بعد شكل السوق الموحد، وإن حدث ذلك بين تركيا وسوريا، ثم بينهما الأردن ولبنان. نحن إذن أمام تبلور قطب عربي- إسلامي على المستويين الإقليمي والعالمي، وهو يواجه بالأساس الهيمنة الأمريكية- الصهيونية المتخصصة فى السيادة على العرب والمسلمين.
وقد أدى هذا إلى تبلور علاقات دولية بين هذا القطب وباقي الكتل العالمية المستقلة عن الولايات المتحدة، وبالأخص كتلة أمريكا اللاتينية، والصين، والهند، ودول جنوب شرقي آسيا (مع ماليزيا بشكل خاص)، وروسيا، بدرجات متفاوتة.
ولابد من ملاحظة أن الهجوم الأمريكي الغربي المكثف على البرنامج النووي الإيراني، يستهدف بالأساس ضرب العمود الفقري العسكري لهذه النواة العربية- الإسلامية، سواء أكانت إيران تستهدف إنتاج سلاح نووي أم لا، فامتلاك المعرفة النووية قوة، كذلك فقد برهنت إيران على تطور صناعتها الحربية فى شتى المجلات، بالإضافة لقدرات وثروات بلد بحجم إيران. وهى كلها عوامل تحفز على ضرب وحصار إيران حتى إسقاط نظام الجمهورية الإسلامي وقد كان هذا هو الهدف الأمريكي منذ اليوم الأول للثورة، أما الآن فإن إسقاط النظام أصبح عسيرا أكثر بكثير، ليس بسبب ما أشرنا إليه من قوته العسكرية ولكن أيضا بسبب توسع دائرة القوى والدول الحليفة والصديقة لإيران فى المنطقة.
وقد أصبحت إيران (بعد العراق وأفغانستان) بؤرة الصراع العالمي، لأن أمريكا تسعى للحيلولة دون استقرار هذا القطب العربي- الإسلامي، وهو القطب المرشح لتقويض نفوذها فى أهم منطقة متبقية لها فى العالم (الشرق الأوسط)، لذلك فإن الصراع سيظل يتسم بالمرارة والشدة لأنه أشبه بمعركة الحياة أو الموت للحلف الصهيوني- الأمريكي. وما نشير إليه من علامات تراجع قوة هذا الحلف يرشحه للتعامل كنمر جريح وهذا خطر.
ما هو موقفنا إزاء هذا الوضع الدولي؟
المبدأ الإسلامي واضح وعادل ومبدئي (نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا) ومما يزيد قوة مصر أن تتعامل مع العالم من خلال قوتها الإقليمية وبناء على ما سبق فإن المبدأ الأول في سياستنا الخارجية، هو إحياء الوحدة والقوة العربية مع الاستفادة من تجارب الفشل الماضية، بالتركيز على البنية الأساسية والاقتصادية، ذلك أن شبكة طرق برية وسكك حديدية وبحرية وجوية هو الذى سيوحد الأمة ويعزز مصالحها المشتركة، مع إلغاء ما يسمى تأشيرات الدخول، وإقامة السوق العربي المشترك هو الأساس المتين لأي حديث عن الوحدة العربية، والقوة العربية، ذلك أنها تتحول إلى أمر واقع. وحتى الحكام غير المتحمسين للوحدة لن يستطيعوا الوقوف فى طريقها، لذلك لا بد من الفصل بين التقدم فى التعاون الاقتصادي وطبيعة الأنظمة، بمعنى أنه لابد من تشجيع التعاون الاقتصادي بغض النظر عن الاختلاف فى طبيعة الأنظمة، لأن الأنظمة زائلة، أما علاقات التعاون بين الشعوب فتستمر، مع إدراك أن الوحدة الحقيقية والكاملة لن تتحقق بدون إرادة سياسية مستقلة عن الهيمنة الأمريكية.
والعلاقات مع الدول الإسلامية تأتى بذات الأهمية تقريبا وبالتوازي، مع ملاحظة أن عوامل القرب العربية ستجعل العلاقات العربية أكثر كثافة ويكون لها الأولوية بهذا المعنى، أي أولوية عملية وليس مبدئية فمن حيث المبدأ الاهتمام بتوثيق العلاقات مع الدول العربية والإسلامية على ذات المستوى.
ثم تأتي بعد ذلك دائرة الجنوب، أي معظم دول العالم التى من مصلحتها إقامة علاقات دولية عادلة، وإنهاء احتكار الشمال للسيادة على الكرة الأرضية، وهذه تشمل كل الدول الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية. وتأتي فى المحل الأخير دول أمريكا الشمالية وأوروبا وهذه تتوقف العلاقات معها من حيث القرب أو البعد، على أساس مسألة العدوان فالدول التى تعتدي علينا أو على أي دولة عربية وإسلامية وتحتلها وتخرج أهلها من ديارهم، فلا يحق شرعا إقامة أي نوع من علاقات التعاون معها حتى توقف عدوانها (راجع التفاصيل فى دراسة الاقتصاد الإسلامي –باب الاقتصاد الإنساني). وهكذا فإن الأصل هو إقامة علاقات تعاون طبيعية مع كل دول العالم عدا الدول المحاربة للمسلمين، والتى تشن حربا واسعة على المسلمين (وليس مجرد نزاعات حدودية).
لا يجوز شرعا بنص القرآن إقامة أي علاقات تعاون مع أمريكا وإسرائيل وأي دولة أوروبية أو غير أوروبية تشاركهما فى العدوان المسلح على المسلمين، ولا يشترط أن يكون ذلك العدوان على مصر، لأن المسلمين أمة من دون الناس، واتخاذ الحدود الوطنية وحدها كمعيار للموقف من العدوان، هو إسقاط صريح للالتزام بالعقيدة الإسلامية.
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:8-9].
وبالتالي فإن التقسيم الثلاثي للعالم، هو تقسيم منطقي ومشتق من القرآن الكريم وليس من اجتهادات الفقهاء وهو: دار الإسلام- دار الحرب- دار العهد ولا يستخدم هنا لفظ (دار الكفر) لأن العلة فى القتال هى العدوان وليس الخلاف فى العقيدة، لأن دار العهد أيضا غير مسلمين. وهذا يؤكد أن المسلمين لا يحاربون غيرهم لأنهم كفار، ولا يسعون لإدخالهم الإسلام بالقوة، بل يحاربون غيرهم عندما يعتدون عليهم، فليس لديهم من سبيل إلا رد العدوان. والنصوص فى ذلك كثيرة: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ).
فالدولة الأجنبية المعتدية هى التى تضع نفسها فى خانة (دار الحرب)، وإلا لأصبحت
تلقائيامن دارالعهد. ودارالعهد ليس بالضرورة أن تكون هكذا بناء على معاهدة مكتوبة. فمثلا مصر لا تحتاج لمعاهدة مكتوبة مع الصين أو البرازيل ليس للبعد الجغرافي فحسب بل لأنه لا توجد أي سوابق اعتداء تاريخية منهما.
فالأصل أن الدول جميعا دار عهد إلى أن يثبت العكس، كالاعتداء على أراضي المسلمين، أو محاربة المسلمين على أراضيها (كالصرب فى تجربة البوسنة والهرسك). ومع ذلك فإن الفقه الإسلامي به سعة، إذ أجاز التعامل مع من أسماه الحربي المستأمن، أي المستثمر أو التاجر القادم من دولة محاربة شريطة الاطمئنان إلى نواياه وعدم إضراره بالمصالح الوطنية.
ولأن نظام مبارك لا يلتزم بشريعة الله فإن الأرقام الرسمية المعلنة تشير إلى أن معظم تجارة مصر الخارجية مع أوروبا وأمريكا! فالميزان مقلوب، وليس هذا المؤشر الوحيد، بل كافة المؤشرات الأخرى: المعونات- القروض- استيراد السلاح- الاستثمار.. الخ والأهم من ذلك الخضوع للقرار السياسي الأمريكي فى الأمور الأساسية بالمنطقة.
إننا ندعو على المستويين الرسمي والشعبي إلى إنهاء هذه الحالة من انبهار العجزة أمام التقدم الأوروبي والأمريكي، وأن تتركز علاقاتنا الاقتصادية والثقافية وزياراتنا مع الغرب، ندعو إلى الاهتمام بالشرق والسفر شرقا ودراسة التجارب الآسيوية الفذة والتعلم منها، وإقامة العلاقات مع جامعاتها ومؤسساتها ومثقفيها بدلا من حالة التوجه الأحادي للغرب. شريطة ألا نتحول إلى الانبهار بآسيا بدلا من الانبهار بأمريكا. فالمهم أن نكتشف طريقنا للمنافسة بين الأمم، وأن ندرك أننا أصبحنا خارج السباق الحضاري، وأن أحدا فى العالم لا يحترم الضعفاء والمتخلفين والعجزة. وأنه لا توجد قوة عالمية مستعدة لانتشال مصر (أو أي دولة عربية أو إسلامية) من كبوتها، وأن هذا هو تحدي كل أمة مع نفسها، فعلى كل أمة أن تعتمد على نفسها بالأساس وأن تحفر طريقها فى الصخر، وعبر هذه العملية الكفاحية وحدها يمكن أن تتعلم من تجارب الآخرين الذين سبقوها.
ويتصور البعض خطأ أن اهتمام أدبيات حزب العمل بدراسة وتحليل الوضع الدولي وكأنه نوع من الدعوة للاعتماد على هذه القوى الدولية الصاعدة، والواقع أننا فى حزب العمل نؤمن بأن التنمية والنهضة الشاملة تعتمد على قوى الأمة وحدها وأن المثل الشعبي السائر هو القانون فى ذلك المجال (ما حك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك)، ولكن الاهتمام بالوضع الدولي ضروري لفهم البيئة الدولية التى نتحرك فيها، وما هو موات لنا وما هو ضدنا فيها وما هو المتوقع فيها فى المستقبل القريب، وهذه من الأمور التى لا تعيرها اهتماما معظم الحركات الإسلامية التقليدية، ويتصورون أنهم يعيشون فى جزيرة معزولة، أو أن الجميع لا يهمنا طالما أنهم غير مسلمين! والقصور فى الفهم السياسي والاقتصادي لمجريات ما يجري فى العالم من أهم عوامل فشل الحركات الإسلامية. فى حين يحضنا القرآن الكريم على فهم ودراسة العالم من حولنا.

ليست هناك تعليقات: